أعادنى الاحتفال بذكرى الفنان المبدع والموسيقار المطرب محمد فوزى لأتذكر حكاية أشهر أغنية وطنية أبدعها للوطن «بلدى أحببتك يا بلدى» التى تعيش فى وجدان الجماهير منذ ثورة يوليو 52 ومرورا بالثورات الوطنية والأزمات السياسية وحتى ثورة 30 يونيو ،
فقد شاءت الظروف أن يلتقى الفنان محمد فوزى عندما جاء للقاهرة قادما من بلده كفر أبو جندى مركز قطور بمحافظة الغربية بالشاعر الكبير مرسى جميل عزيز فى مبنى الإذاعة القديم بشارع الشريفين يطلب منه أغنية يتغنى فيها بحب الوطن، فرحب مرسى جميل به ووعده بأنه سيكتب له الأغنية خلال يومين وفى الموعد المحدد قابله فى الإذاعة وقر أ له مطلع الأغنية التى كتبها بالفصحى « بلدى أحببتك يا بلدى .. حبا فى الله وللأبد .. فثراك الحر تراب أبى .. وسماك يزف صبا ولدى .. بلدى أحببتك يا بلدى» فانبهر فوزى بكلمات مرسى وطلب منه باقى الكلمات وفى الموعد المحدد لهما كانت الأغنية متكاملة فى يد فوزى الذى اعتكف على الفور فى منزله ولحنها ليبدأ البروفات وكان قد لحن كلمات أخرى لنفس المؤلف وآخرين، وحدثت مشكلة فى أن لجنة الاستماع التى كانت تضم كبار الموسيقيين فى الإذاعة قررت بالإجماع اعتماده كملحن ورفضت الموافقة عليه كمطرب، وشعر بحالة من الظلم والأذى النفسى وظل عدة أيام فى حالة حزن شديد وتشاء الظروف ويتحول الموقف لصالحه عندما قامت ثورة 23 يوليو 52 وارتبط ببعض قادتها من الضباط الأحرار وقدم أغنيته « بلدى أحببتك يا بلدى» ضمن مجموعة من الأغنيات الأخرى كان قد لحنها ومنها أغنيته الشهيرة للأطفال «ماما زمانها جاية» و «ذهب الليل وطلع الفجر» وبعض الأغنيات الدينية مثل « إلهى ما أعدلك »، واتجه فوزى إلى السينما بعد تعثره كمطرب فى الإذاعة وشارك فى بطولات بعض الأفلام وكان معظمها يتضمن بعض أغنياته التى لحنها وغناها بنفسه، وكانت الإذاعة تذيعها مسموعة ويقبل على سماعها المستمعون وحققت نجاحا كبيرا مع أن الإذاعة نفسها لم تبد موافقة عليه كمطرب إعتمادا على قرار لجنة الاستماع مع أنها تذيع أفلامه كاملة بما تضمنته من أغنيات كما نجح نجاحا كبيرا فى السينما الاستعراضية والغنائية واضطرت الإذاعة فى النهاية أن تذيع كل أعماله لما حققه من نجاح خاصة عندما ساعدته الظروف لينضم إلى الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى كمطرب فى مسرحية «شهر زاد» لسيد درويش وعندما شارك فى فيلم المخرج محمد كريم «سيف الجلاد» وفى فيلم «أصحاب السعادة» وتساعده الظروف فى إنشاء شركة اسطوانات ( مصرفون ) بجوار مكتب بريد العتبة من ماله الخاص عام 58 ويلحق بها استوديو متطور، ولكن الحظ وقف فى وجهه مرة أخرى عندما صدر قرار التأميم الذى أصدره عبدالناصر وشمل هذه الشركة وتم تعيينه مديرا لها ثم تغير اسمها فيما بعد لتصبح شركة ( صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات) ، لتتخصص فى تسجيل أشهر أغنيات سيدة الغناء العربى أم كلثوم.
وكان الحظ قد حالفنى ( كاتب هذه السطور ) عندما حضرت بروفات وتسجيلات كثير من أغانيها و قصائدها الشهيرة التى تغنت بها للرائدين الكبيرين عبدالوهاب ورياض السنباطى خاصة رائعة « أنت عمرى» التى أطلق عليها لقاء السحاب تأليف أحمد شفيق كامل و « الأطلال» لإبراهيم ناجى وغيرهم ، وأعود لحكاية « بلدى أحببتك يا بلدى» لأروى بعض الظروف التى جعلتها تصبح أغنية كل المناسبات الوطنية وبعض الأحداث والأزمات التى مر بها الوطن ومنها أزمة 67 فلم تجد الإذاعة أغنيات تخاطب الظروف الصعبة التى مر بها الوطن لتكتشف فى مكتبتها العامرة تسجيلا رائعا لأغنية «بلدى أحببتك يا بلدى» وتذيعه عدة مرات لأنها كانت تتحدث عن حب الوطن فقط خاصة فى الكوبليه الأخير الذى أبدعه مرسى جميل عزيز فى الأغنية وقالها بحماس محمد فوزى لحبه الكبير لوطنه الذى يقول فيه «حرا فى الأهل وفى السكن .. ماض يختال على الزمن .. أهواك ضفاف لم تزل .. مرعى للحب وللغزل .. أهواك ربيعا للأزل .. للعيش الحر وللرغد .. بلدى أحببتك يا بلدى .. حبا لله وللأبد ..». ويشتد المرض على الفنان محمد فوزى ويرحل عن عالمنا رحمه الله فى 20 أكتوبر 1966 ، ولتحدث بعد ذلك نكسة 67 وتبحث الإذاعة عن أغنيات وطنية تتوافق مع الظروف الصعبة التى يمر بها الوطن حيث كانت الأغانى الموجودة بمكتبة الإذاعة يدور معظمها عن ثورة 23 يوليو أو الزعيم جمال عبالناصر لتكتشف الإذاعة أن الأغنية الأفضل لهذه الظروف هى « بلدى أحببتك يا بلدى » لأن مرسى كتبها عن حب الوطن دون ذكر أى أسماء وهكذا كان يفعل فى كثير من أغانيه حرصا منه أن يكون إبداعه مخاطبا كل العصور واستمرت كذلك تخاطب مشاعر المصريين الوطنيين حتى تحققت المعجزة الكبرى بعبور قواتنا المسلحة لقناة السويس فى أكبر انتصار فى تاريخ العسكرية المصرية لتأخذ «بلدى أحببتك يا بلدى» مكانها اللائق بها على خريطة الأغانى الوطنية فى ذلك الوقت بجوار كل الأغانى التى أنتجتها الإذاعة والتليفزيون عن المعركة وكانت أيضا ضمن الأغنيات الشهيرة التى حرصت الإذاعة على تقديمها فى كل المناسبات التى يمر بها الوطن. ويبقى اسم الراحل الفنان الملهم محمد فوزى على رأس قائمة الفنانين المبدعين الذين أحبوا مصر وأخلصوا لها وأبدعوا أعمالا رائدة لوطنهم ترددها الأجيال المتعاقبة جيلا بعد جيل . ويبقى مرسى جميل عزيز صديقه شاعر الألف أغنية كما يبقى مبنى الإذاعة العريق شارع الشريفين شاهدا على عصر أعظم الأغنيات والقصائد التى تغنى بها جيل الرواد فى زمن الفن الجميل .
مصطفى الضمراني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق