موسيقى محمد عبد الوهاب - بحث وتحليل: د.أسامة عفيفى
نعرض هنا لوجه آخر من أوجه فن عبد الوهاب هو الموسيقى البحتة ، وكيف كان يفكر محمد عبد الوهاب فى الفن والموسيقى والإبداع وكيف كان ينظر إلى المستقبل وكله أمل فى التطور ، ثم كيف حقق هذا التطور
بلغ عدد مؤلفات محمد عبد الوهاب من أعمال الموسيقى البحتة نحو خمسين قطعة موسيقية على مدى أربعة عقود استخدم فيها طرق واساليب مختلفة وعرفت جميع تلك القطع بأسمائها التى وضعها لها ، وإلى جاتب ذلك قدم عشرات من المقدمات والمقاطع الموسيقية الطويلة فى أعماله الغنائية يمكن أن تعد موسيقات مستقلة بذاتها
عند سماعنا لإحدى هذه المؤلفات نتعرف عليها من خلال استماعنا السابق إليها عبر الإذاعة حيث كانت تذاع كفواصل بين البرامج وقبل إشارات ضبط الوقت بصورة يومية خاصة إذاعة القاهرة حتى أن المستمع كان يمكنه تمييز إذاعة القاهرة بتلك الموسيقى ، ورغم سيطرة أجواء تلك الموسيقات إلا أنها كانت تذاع غالبا دون تعريف بمؤلفها أو حتى باسمائها لكونها مقاطع فقط وليست الأعمال الكاملة ، ولهذا لم يعرف معظم الجمهور من وراء هذه الموسيقى
عش البلبل - موسيقى محمد عبد الوهاب
أما الدارسون للموسيقى العربية فقد كانت مؤلفات عبد الوهاب الموسيقية نماذج جذابة لهم للتمرين وللتعرف على المقامات ولم يخل منها دفتر الموسيقى لأى عازف شرقى ، مثلها فى ذلك مثل النماذج الأكاديمية التقليدية كالسماعيات الشرقية والسوناتات الغربية
يتردد كثيرا أن عبد الوهاب هو من أدخل الموسيقى البحتة إلى الموسيقى العربية ، لكن ذلك فى الواقع غير صحيح رغم كثرة المراجع التى تشير إلى ذلك ، فقد سبقه غيره فى ذلك ، لكن عناصر جديدة أدخلها عبد الوهاب جعلت موسيقاه تتميز عن موسيقى الآخرين ، بل وجعلت من لحقوه يسيرون على نهجه تاركين القديم على حاله ، وهو بذلك قد حقق نوعا من الريادة بفضل القواعد الجديدة التى أرساها
وإذا تأملنا هذه القواعد نجدها تجتمع تحت عنوان واحد هو التحرر ، فأصبحت القاعدة أنه لا توجد قاعدة ، فقد تحرر عبد الوهاب فى قطعه الموسيقية من القوالب القديمة للموسيقى البحتة والتى كانت تضم البشرف ، السماعى ، اللونجا ، التحميلة ، التقاسيم ، لكل منها منهج معين يقسمها إلى أجزاء ذات صفات خاصة يتقيد بها جميع المؤلفين
هذه القوالب وضعها الموسيقيون الأتراك فى العصر العثمانى وظلت سائدة حتى تفنن عبد الوهاب فى تكسيرها واحدة وراء الأخرى ، لن ندخل هنا فى تفاصيل أكاديمية لكن يمكن إيجاز القول فى أنه نجح فى فك أسر الموسيقى من قوالبها التى جمدت مع الزمن ، ومع تحول الفن من التطريب إلى التعبير بمقدم سيد درويش فى مطلع القرن العشرين أصبح للتعبير الأولوية المطلقة عند الموسيقيين والجمهور على السواء
وقد سبق هذه الحركة الموسيقية فى الثلاثينات تغييرات أيضا فى قوالب الغناء حيث انتهى عصر الدور والموشح وبدأ عصر المونولوج والديالوج والأغنية الحديثة ، وهى قوالب أيضا تميزت بالميل إلى التحرر من النماذج الثابتة وأعطت مساحات أوسع للفنان للتعبير
وقد تأثر بهذا الاتجاه الموسيقيون الجدد ومضى كثيرون فى تأليف قطع جديدة من الموسيقى البحتة المتحررة من القوالب القديمة والمعتمدة أساسا على الفكرة التعبيرية ، ومنهم من اكتفى بها دون التلحين أشهرهم أحمد فؤاد حسن وعطية شرارة وهما من قادة الفرق الموسيقية الشرقية ، لكن هناك مئات إن لم يكن آلاف غيرهم اتبعوا هذا الاتجاه ، بل إنه أصبح من النادر أن لا يكون لقائد فرقة أو عازف قطعة موسيقية ألفها وأعطاها اسما على طريقة محمد عبد الوهاب!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق