لو لم يلحن محمد القصبجي طيلة مسيرته إلا أغنية يا طيور لكفته ليخلد نفسه في تاريخ الموسيقى العربية ، إنها الرائعة غير المسبوقة والعمل الذي لم يقدر أي أحد من أساطين التلحين العرب من إن يقترب منه إلى اليوم ، كيف ولدت الأغنية ؟ ومن أين استلهمها القصبجي ؟ ما هي العوامل التي توفرت لهذا اللحن وخلدته إلى الأبد ؟ وما هي مظاهر التجديد التي انطوى عليها ؟ وما هي الإضافات التي أضافها اللحن للموسيقى العربية ؟
وضعت الأغنية على قالب المونولوج الرومانسي الذي يعتبر القصبجي فارسه الأول بلا منازع ، لحنت في عام 1940 ، واجتمعت لها كل أسباب النجاح من ملحن مجدد هو فارس القالب الذي لحن فيه الأغنية ، وكاتب كلمات من نفس الطينة فبعد أحمد رامي رائد الرومانسية في الشعر الغنائي العربي والعامي ، جاء كاتب كلمات الأغنية يوسف بدروس إلى القاهرة يحمل ثقافة فرنسية عالية وإطلاع واسع على الشعر الرومانسي الفرنسي ، بجانبهما كانت العملاقة أسمهان بإمكاناتها الصوتية الخارقة قوة وتعبيرية وفي قمة عطائها ونضجها الفني .
الاستلهام وميلاد الأغنية
في كتابها محمد القصبجي الموسيقار العاشق ، تحكي الدكتورة رتيبة الحفني أن الأغنية ولدت في بيت والدها الدكتور محمود أحمد الحفني فتقول : « فمن بين ما تضمنته مكتبة والدتي الموسيقية ، أسطوانة فالس « غابات فيينا » ، وهي من مؤلفات يوهان شتراوش ( الموسيقار النمساوي الأصل ، ومؤلف فالس الدانوب الأزرق ) . كان هذا الفالس مسجلا على أسطوانة بصوت مغنية نمساوية شهيرة ، هي ارنا زاك صاحبة الصوت الجميل من طبقة السوبرانو الحاد ( كوليراتورا) .. وكان ختام هذا الفالس يأتي بجزء استعراضي صوتي رائع ، تقلد فيه المغنية تغريد الطيور .. بالآهات ، بينما تبادلها في الأداء آلاة الفلوت .
أعجب القصبجي بموسيقى هذا الفالس ، وبأسلوب أداء المغنية ، وخاصة الجزء الأخير منه ، فكان يطلب من والدتي إعادة هذا الجزء عدة مرات ، ومع كل تكرار كان ينفعل بالصوت الرائع لأداء المغنية ، وللتوافق الجميل بين صوتها وبين نغمات آلة الفلوت ، فيضرب بيده على رأسه .
وذات يوم ، وبعد أن استمع القصبجي كعادته إلى هذا الفالس أكثر من مرة ، طلب مني إحضار عودي الصغير ، وبدأ يعزف عليه لحنا جميلا .. مصريا أصيلا .. وكان يصاحب تلك النغمات ببعض الكلمات .. وفي ختام اللحن جاء القصبجي بجزء صوتي استعراضي بنفس الأسلوب الذي كانت تؤدي به المغنية النمساوية ختام الفالس .. وكانت هذه الليلة مولد أغنية ياطيور . »
تتبعت رواية الدكتورة رتيبة الحفني التي لا أكذبها ، فوجدت أن الفالس الذي تحدثت عنه ليس للموسيقار الألماني الشهير يوهان شتراوس وإنما لموسيقي أمريكي آخر له نفس الاسم يدعى ريتشارد شتراوس ، وغنته بالفعل المطربة النمساوية الشهيرة ارنا زاك تحث عنوان Frühlingsstimmen التي تعني باللغة الألمانية صوت الربيع ، وقد رفعت هذه المقطوعة كاملة أنظرالمرفق الصوتي والصورة ، ومن يستمع إليها يتوقف على مدى التأثر الشديد للقصبجي بهذا اللحن وتأثر أسمهان الواضح بأسلوب المغنية النمساوية ارنا زاك في تقليدها لصوت الطيور فقد حاولت محاكاتها بصوت السوبرانو الحاد ووفقت إلى حد بعيد إلا أنها لم تستطع أن تصل إلى أداء ارنا زاك في منطقة الأصوات الحادة ومجاراتها في النفس الطويل وهو أمر طبيعي لأن هذه الأخيرة سوبرانو محترفة ، ويظهر التقليد باديا في أجزاء مختلفة من فالس صوت الربيع ومونولوج ياطيور، وقد حاول القصبجي وأسمهان في ختام أغنية يا طيور محاكاة ما نفذه ريتشارد شتراوس و ارنا زاك في ختام فالس صوت الربيع عن طريق التناوب بين المغنية والآلآت الموسيقية على تقليد تغريد الطيور .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق