محمد القصبجي في منزله
أيّ إلهام مُبارك نزل على محمد القصبجي ليعكف
على تلحين 'رقّ الحبيب' ويُنهيها في خلال أربع ساعات شيطانية. القصبجي عالم موسيقي
كبير ـ كانت تقول أم كلثوم ـ ومرجع، مع ذلك أبت هي نفسها غناء أيّ لحن من ألحانه
بعد 'رقّ الحبيب'. عزوف أم كلثوم عن الغناء للقصبجي بعد رائعته تلك، خلفه أسرار
وقصص ليست مجالنا هنا، منها ما يتعلّق بقيامه بالتلحين لأسمهان، ما جعل هذه ترتقي
الى حدّ ما الى مكانة السيّدة، خصوصاً في 'ليت للبراق عيناً' و'اسقنيها بأبي أنت
وأميّ' و'هل تيّم البان' ومونولوغ 'يا طيور'. من الأسرار أيضاً ما أُشيع عن انتهائه
كملحّن بعد أن أعطى 'رقّ الحبيب' كل إبداعه.
لعليّ صاحبة ذائقة موسيقية تنحو الى الكلاسيكية في انشدادها الى ما أبدعه القصبجي، لأكثر بكثير مما فعله السنباطي. الناقد الموسيقي السوري صميم الشريف في دراسته تحت عنوان: الدور الكبير لمحمد القصبجي في تجديد الموسيقى العربية، أعانني تماماً ودلّني على مكامن عظمة هذا الملحن الكبير، وأفسح لي بشكل علمي، التأكدّ مما أُحدسه في قلبي بشأن رفعة إبداع القصبجي، وتفرّده.
حين أسمع لحنه بصوت أم كلثوم: 'إن كنت أسامح وانسى الأسيّة' الذي نسف أساليب الغناء القديمة، مُفرداً حيزاً واسعاً للصوت الإنساني، أجده منعطفاً تاريخياً هامّاً في مسيرة الغناء (من يسمع هذه الأغنية تحديداً يُدرك تماماً ما أتحدّث عنه) ونقلة حضارية، تعبيرية إرتقت الى لغة العصر الذي عاش فيه. كلاسيكية القصبجي التي عنيت، وعلى عكس ما يتبادر الى القارىء، هي كلاسيكية الثبات في الرفعة، والثورة في آن على القديم، والسخاء والبذل في سبيل الإرتقاء بفن الأغنية والموسيقى على حد سواء.
صحيح أن القصبجي إتفق مع الشيخ أبي العلا محمد (المعروف بتمسّكه بالفصحى دون غيرها في الغناء) في نواح، غير أنه إختلف معه في نواح أخرى وفي مسألة الفصحى تحديداً، فهو على رفقته زمناً مع أبي العُلا، تعامل مع الشعر ومع أنواع النُظم الأخرى التي لا تُجافي العامية المصرية. القصبجي إرتقى أيضا بفن المونولوغ ومنحه فيض شاعرية رائعة وعاطفية وذاتية جمعت بين فصيح اللغة وعاميتها، كما سخّر للمونولوغ العلوم الموسيقية الغربية، واستخدم له من الآلات الغربية ما يتلاءم وطبيعة كل لون من ألوان الغناء العربي (الكمان والفيولونسيل والكونترباص) .
في 'يا طيور' التي أعطاها لأسمهان، نرى الى فكر القصبجي، الذي لم يكن فكراً موسيقياً إرتجالياً، وإنما سيمفونياً اوبرالياً بخيال نشط وأسلوب علمي مدروس. لم تقتصر عطاءات القصبجي على فن المونولوغ، بل له أيضاً في 'الطقطوقة' إنجاز براّق:
'إنتي فاكراني واللا نسياني' و'ليه تلاوعيني وانتي نور عيني' وخصوصاً في اللعب الماهر في الغصن الأخير، وفي إضافة لوازم قصيرة بين الأغصان (المقاطع) حررت صيغة اللحن الواحد التي عُرفت فيها الطقطوقة قبل اشتغال القصبجي عليها.
'عطف حبيبي' و'ما دام تحب بتنكر ليه' وصلت فيهما ألحان القصبجي الى الذروة. كما احتاج دائماً الى أصوات ذات مواصفات خارقة، ليُجري تجاربه عليها: أم كلثوم في المقدمة، تليها فتحية أحمد، ونادرة، حياة محمد ونجاة علي. بقيت أم كلثوم هرماً لا يتزعزع كتب القصبجي جلّ ألحانه لأجلها، الى أن اكتشف ليلى مراد التي لاءم صوتها فكرته عن التغيير: 'يا ريتني أنسى الحب يا ريت' بعدها أسمهان في: 'إيمتى حتعرف إيمتى'.
هل هو سوء طالع محمد القصبجي، عبقري اللحن، وراء الإجحاف الذي لحقه حياً وميتاً، فلا تكريم رسميا كالذي يحظى به سواه (سيّد درويش، عبد الوهاب .. وآخرون) ولا كتابات نقدية جادة إلا في ما ندر، تضع بصماتها على ما بان أو خفي من إنجازاته.
هو سوء الطالع والإجحاف المسؤول والمتعمّد الذي لحق بالقصبجي، كما نال من طائفة من الملحنين كحليم الرومي ومحمد فوزي ومحمود الشريف واحمد صدقي ومنير مراد وغيرهم.
لعليّ صاحبة ذائقة موسيقية تنحو الى الكلاسيكية في انشدادها الى ما أبدعه القصبجي، لأكثر بكثير مما فعله السنباطي. الناقد الموسيقي السوري صميم الشريف في دراسته تحت عنوان: الدور الكبير لمحمد القصبجي في تجديد الموسيقى العربية، أعانني تماماً ودلّني على مكامن عظمة هذا الملحن الكبير، وأفسح لي بشكل علمي، التأكدّ مما أُحدسه في قلبي بشأن رفعة إبداع القصبجي، وتفرّده.
حين أسمع لحنه بصوت أم كلثوم: 'إن كنت أسامح وانسى الأسيّة' الذي نسف أساليب الغناء القديمة، مُفرداً حيزاً واسعاً للصوت الإنساني، أجده منعطفاً تاريخياً هامّاً في مسيرة الغناء (من يسمع هذه الأغنية تحديداً يُدرك تماماً ما أتحدّث عنه) ونقلة حضارية، تعبيرية إرتقت الى لغة العصر الذي عاش فيه. كلاسيكية القصبجي التي عنيت، وعلى عكس ما يتبادر الى القارىء، هي كلاسيكية الثبات في الرفعة، والثورة في آن على القديم، والسخاء والبذل في سبيل الإرتقاء بفن الأغنية والموسيقى على حد سواء.
صحيح أن القصبجي إتفق مع الشيخ أبي العلا محمد (المعروف بتمسّكه بالفصحى دون غيرها في الغناء) في نواح، غير أنه إختلف معه في نواح أخرى وفي مسألة الفصحى تحديداً، فهو على رفقته زمناً مع أبي العُلا، تعامل مع الشعر ومع أنواع النُظم الأخرى التي لا تُجافي العامية المصرية. القصبجي إرتقى أيضا بفن المونولوغ ومنحه فيض شاعرية رائعة وعاطفية وذاتية جمعت بين فصيح اللغة وعاميتها، كما سخّر للمونولوغ العلوم الموسيقية الغربية، واستخدم له من الآلات الغربية ما يتلاءم وطبيعة كل لون من ألوان الغناء العربي (الكمان والفيولونسيل والكونترباص) .
في 'يا طيور' التي أعطاها لأسمهان، نرى الى فكر القصبجي، الذي لم يكن فكراً موسيقياً إرتجالياً، وإنما سيمفونياً اوبرالياً بخيال نشط وأسلوب علمي مدروس. لم تقتصر عطاءات القصبجي على فن المونولوغ، بل له أيضاً في 'الطقطوقة' إنجاز براّق:
'إنتي فاكراني واللا نسياني' و'ليه تلاوعيني وانتي نور عيني' وخصوصاً في اللعب الماهر في الغصن الأخير، وفي إضافة لوازم قصيرة بين الأغصان (المقاطع) حررت صيغة اللحن الواحد التي عُرفت فيها الطقطوقة قبل اشتغال القصبجي عليها.
'عطف حبيبي' و'ما دام تحب بتنكر ليه' وصلت فيهما ألحان القصبجي الى الذروة. كما احتاج دائماً الى أصوات ذات مواصفات خارقة، ليُجري تجاربه عليها: أم كلثوم في المقدمة، تليها فتحية أحمد، ونادرة، حياة محمد ونجاة علي. بقيت أم كلثوم هرماً لا يتزعزع كتب القصبجي جلّ ألحانه لأجلها، الى أن اكتشف ليلى مراد التي لاءم صوتها فكرته عن التغيير: 'يا ريتني أنسى الحب يا ريت' بعدها أسمهان في: 'إيمتى حتعرف إيمتى'.
هل هو سوء طالع محمد القصبجي، عبقري اللحن، وراء الإجحاف الذي لحقه حياً وميتاً، فلا تكريم رسميا كالذي يحظى به سواه (سيّد درويش، عبد الوهاب .. وآخرون) ولا كتابات نقدية جادة إلا في ما ندر، تضع بصماتها على ما بان أو خفي من إنجازاته.
هو سوء الطالع والإجحاف المسؤول والمتعمّد الذي لحق بالقصبجي، كما نال من طائفة من الملحنين كحليم الرومي ومحمد فوزي ومحمود الشريف واحمد صدقي ومنير مراد وغيرهم.
__________________
د. هشام سعيدي
د. هشام سعيدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق