(شكد نده نكّط عالضلع ونسيت أكلّك يمته، شكد رازقي ونيمته))مظفر النواب)
عن (تمنيتك تجي اٍبكد ما تمنيت،أسألك من عطشتك ليش ما جيت؟)(عريان سيد خلف)
وكلاهما تتحدث عن حبيب غائب وتعاتبه؟
وبماذا تتفرد
(والشته كلّه أتعدّه والصيف هم اٍتعدّه، اٍشجاب العشك واٍشودّه، لا بالمحطة رف ضوه،لا خط اٍجانه من الولف، لا ريل مر عالسدّة، مر عالسدّة) (مظفر النواب)
عن (وآنه صابر وآنه ذابل وأنتظر جلمة فرح منه برسالة، وشعجب شحّن مكاتيبه عليّه وما بعد للحب أثرْ، والكلب آه الكلب شتلة بجزيرة وتحلم بمزنة مطرْ)(عريان سيد خلف)
ولماذا غدت تعابير مظفر وأشعاره أمثالاً يرددها العراقيون كلما تطابق واقعهم مع كتابات مظفر وهذا التطابق واقع لامحالة كلَّ يوم
ولماذا غدا الغزل المفضوح الممنوع خصوصاً عن لسان النساء أمراً مقبولاً بل ومستحباً تقرؤه المرأة ويقرؤه الرجل علانية بلا غضاضة أو تردد
أترف من جفافي المهر
قندون ما ضايك شَكرْ
يا حلو يا جرّة كحل
يا حلو يا بوسة سَهرْ
ولماذا يبقى الشعراء الشعبيون يلهثون وراء ما كتب مظفر وكلما اٍرتفع أداء أي منهم يبدو تقليداً لما كتب مظفر وكأن شعر مظفر النواب هو الكتاب المقدس وهو ما يقاس عليه كل ما يُكتب?
وبقيت حائراً في الاٍجابة رغم وجود اِجابات كثيرة وتعداد أسباب مهمة منها شاعرية مظفر الأصيلة وغنى مفرداته وتوظيفها وتوليفها الرائعين وغير ذلك من الأسباب التي يعنى بها النقاد المتخصصون اٍنما تكشفت لي الحقيقة بشكل أوضح حين بدأ مظفر يكتب الشعر الفصيح وبدأت بمقارنة شعره الفصيح مع شعر فحول شعراء الفصيح الذي تجدون نموذجاً منه أعلاه وهنا تصح المقارنة أكثر فنحن لا نقارن هنا بين شعر مظفر الشعبي مع شعراء ندري أنه يفوقهم بكثير في اٍمكاناته والحقيقة يمكن أن تختصر بالمقولة أن شعر مظفر النواب الشعبي يصح تماماً أن نطلق عليه (الشعر المثقف).
(أطفأه الشوق)(سقطت زهرةُ لوز عفة)(أجمرت عيناه شوقاً)(طارت الزهرة في الريح)(جرحي بالريش)(بالريش التقا)(لذتي أكثر مني خلقا)
هذه شاعرية عربية مكتملة مزهوة منطلقة تمتطي صهوة حصان اللغة بل تعلو عليها وتسمو بها الى عوالم صوفية نؤاسية عذرية عراقية عربية عالمية
ثقافة مظفر ثقافة عراقية عربية كونية،ثقافة مظفر ثقافة فريدة حين وظفها لكتابة الشعر الشعبي .
ولأن أدواته مثقفة ثقافة اٍمتزج فيها الشعبي بالفصيح رفع مظفر النواب مستوى الشعر الشعبي العراقي وسما به الى مستوى رفيع ونقله من مصاف الكلام العامي الموزون المقفى الى شيئ مختلف تماماً وفعل ذلك بذكاء وشفافية وأرضى أيضاً أغراضه الفكرية التقدمية المعروفة
في (الريل وحمد) وهي واحدة من أشهر قصائده اٍتبع مظفر منهجاً مجدداً وثورياً .فرغم أن القصيدة غزلية اٍلا أنها تتصف بالآتي:
1.أنها على لسان اٍمرأة تتغزل بحبيبها في زمن لا يجرؤ أي شاعر شعبي أن يتغزل بالمرأة ويكنيها مخاطباً المذكر فيقول الشاعر الآخر مثلاً
أحبك وأستحي منك ورد حيّ
مياجن دكن بسدري وردحي
كل الورود اٍنطفن بس خدك ورد حيّ
عرد وعلى الحماد يزود ضية
أو حين يقول عريان
لنته حبيب ونحب ولنته عدو اْنعاديكْ
ولو بينت عالدرب بيبانه اْتلاكيكْ
وغير ذلك كثير ولازال الشعراء الشعبيون يمسخون الأنثى كل يوم حين يخاطبونها بصيغة المذكر الشائعة الممجوجة
أما مظفر وفي قصيدة في خمسينات القرن الماضي فقد اٍنتصر للمرأة ولم يكتف بل جعلها تردد اٍسم حبيبها في مطلع القصيدة:
مرينه بيكم حمد واْحنه بغطار الليل
واْسمعنه دك أكهوة وشمينه ريحة هيلْ
وجعلها تندب المحبة وتنادي القطار :
ياريل صيح اٍبقهر صيحة عشك ياريل
وتعود قانطة متأسية لحالها
هودر هواهم ولك حدر السنابل كطة
وقفلة المقطع الأول من القصيدة هي أروع مافيها لأنها أعادت المرأة الى الجرح الداخلي الغائر العميق المتجذرداخلها وهو اٍلحاح العشق/الجنس/الهجر واٍنتظار الذي لا يأتي
ولسان المرأة هنا قوي رغم ضعفها وحنين رغم عزّة نفسها
يابو محابس شذر يالشاد خزّامات
ياريل بالله بغنج من تجزي بأم شامات
لا تمش مشية هجر كلبي بعد ما مات
هودر هواهم ولك حدر السنابل كطة
لاحظ كيف أن (ولك) وظفت توظيفاً جميلا ووقعت بين هودر هواهم الذي هو اٍقرار بمصيبة واقعة تستلزم (ولك) ومصيبة أخرى هي الحرقة الداخلية والتأزم الأنثوي داخل المرأة أين هذا من قول الشاعر الآخر:
ولك ياريل لا ﺘﮕﻌر
أخاف اٍتفزز السمرة
ف(ولك) الآمرة هنا قبيحة وهي من الاْستعمال اليومي وفََجاجة الأمر(لا ﺘﮕﻌر) اٍضافة لكون الكلمة نابية شعرياً وهابطة.
2. القصيدة كما هو معروف من وزن النايل المنتشر في كل العراق
نايل كتلني ونايل غيّر ألواني
وهي حركة ذكية من مظفر في واحدة من أوائل قصائده التي تلاقفها الناس فهو قد نهج على نهج من سبقوه من جانب وجدد في المعاني والمباني .
3.طعم الثقافة ونكهتها الفواحة تجدها في الصفات المجددة التي يطلقها الشاعر على لسان بطلة القصيدة والمنتشرة كالدر المنثور
جن حمد فضة عرس (جديدة ولامعة)
جن حمد نركيلة (طويل وممشوق)
مدكك بمي الشذر(لأن الشذر أزرق والدﮔﺔ زرقاء)
جن كذلتك والشمس والهوه هلهولة
وهذه الصفات جديدة على الشعر الشعبي فالشاعر الشعبي قبل مظفر وبسبب محدودية ثقافته يستخدم الصفات العادية المتداولة كما أن الصفات التي يأتي بها مظفر غير مباشرة وتدل على خيال خصب ينهل من معين لا ينضب من موروث العراق وليس كما هو الحال في شعر أغلب الشعراء الشعبيين الذين سبقوا مظفر أو عايشوه.
واٍذا أردنا أن نتتبع الأدوات الثقافية الراقية التي ينهل منها مظفر فسيعجز هذا المقال المركز عن اٍيفاءها حقها لكن سنركز على الملامح والخطوط الأساسية
نكضني النهد شايل ثكل شامة
وبمي الورِد غركان شمّامة
في مقطعين مركزين مكثفين صور لنا مظفر وبشاعرية نادرة كيف أن المتكلم (ﻨﮔض) وهو فعل عراقي خالص يعني التعب الكامل وهنا التعب الكامل من حمل ثقل ولكن عن أي ثقل نتحدث؟ لكن لماذا (ﻨﮔض) اْنه تعب من ثقل (الشامة) والسبب الثاني أن (شمامه) وهو البطيخ العراقي صفة لما يصف (غرﮔان) بماء الورد
هنا اْستخدام جديد راق وغير مباشر للشامة وغرق ما تشمه منه بماء الورد اْضافة لظلال كلمة (شمام) وهو البطيخ العراقي ذي الرائهة الزكية المعروفة
وفي مثال آخر على سمو أدوات مظفر النواب
جفنك جفن فرّاشة غضْ
وحجارة جفني وما غمضْ
يلتمشي بيّه ويه النبضْ
روحي أعلى روحك تنسحنْ
أية مقارنات جميلة بين الجفن الغض والجفن (الحجارة) .هنا جاءت كلمة الحجارة الثقيلة لفظاً بالحاء والجيم والراء ومعناها الذي يعني الثقل بديعة في موضعها وتوالي جيم جفن مع جيم حجارة في مقطعين متتاليين أعطى للمقطع كله موسيقى وجرساً لطيفاً وفي نفس القصيدة تتوالى التشبيهات والاٍستعارات غير المتداولة في الشعر الشعبي العراقي قبل مظفر
- عيونك زرازير البراري
- الروح مني عوسجة بر ما وصل ليهه الندى ولا جاسهه ﺑﮕطرة المطر
- كل مسامة اٍتفيض منك عطر
- سكتاتك تشكّل خواطر باﻠﮕلب
- كل جلمة منك نبعة الريحان بالدلال ما تحمل ثكل
- كالولي عنك شال منّك غيض بستان الورد
- النرجس الرايج سكر
وتصل القصيدة الى مستوى متسامق من الوصف العاشق الولهان الذي يقطر شهوة لكنها شهوة محبوكة بلغة أدبية طليّة تدخل الى القلب ولاحظوا العمق في (تمتلي بكد ماتنمرد) ووقوع (لاهي دفو لاهي برد) بعدها أكملها تماماً
شفافك ولا كولن ورد
عنابة معكودة عكد
تمتلي بكد ما تنمرد
لاهي دفو لاهي برد
آنه بوصفهه راح أجن
والملاحظة العامة هنا أن مظفر يدخل الكثير من الكلمات الفصيحة دون اٍقحام كما في (سكتاتك تشكّل خواطر باﻠﮕلب) (وتلجلج الليرة)(ونهودي زمّن والطيور الزغيرة تزيف)
(وساومت جرحك على الخسّة وخفيته)
وهذا التطعيم الذكي التلقائي الذي مارسه مظفر وتراه منثوراً في قصائده أعطى بعداً جديداً للشعر الشعبي وحاول الكثيرون بعده مزاولة نفس الطريقة باٍدخال الفصيح في العامي لكنه سقط في اغلب الأحيان في فخ الصنعة والاقحام كما في
من ربك خلق آدم
خلق بغداد عالصوبين
نخيل يطاول نجوم السما
ونجمات من تنزل تكحل العين
هنا جاءت جملة الشاعر جمعة الحلفي وكلها فصيحة مقحمة على السياق وكأنه اراد بها رفع مستوى القصيدة فسقط في فخ النقل من الفصحى الى العامية اٍضافة لعدم مناسبة نخيل غير المستخدمة في العامية حيث نجمع نخلة على نَخَل.
مظفر ينفعل داخلياً بمشاعر شعبية أصيلة وقبل أن يخرج شعره الى النور تنصهر داخله في بوتقة واحدة الفكرة والخزين الفصيح الهائل وتخرج دفعة واحدة شعراً غير مصنع فيه من الفصاحة والثقافة والموروث الكثير والأهم من كل ذلك يخرج ندياً عبقاً مبللاً بعراقية جنوبية زاهية عطرة
ترافة وليل ودگ ريحان يااسمر لا تواخذنه
يلن كل دﮔﺔ من حسنك شتل ريحان للجنّة
تحفّة ودوس فوگ الروح وحسبها علي منّة
أطﮕﻥ ورد من تجزي وألف نمام يتحنه
والشعر يحكي بنفسه جزالة وعلو كعب مظفر وتفرده الذي لا يجارى
ومن خصائص شعر مظفر الواضحة التي تحسب له وتندرج في اٍستلهامه الاٍرث العراقي الغني وما يوجد على أرض العراق ومزجه بمضامين شعره بطريقة تثير الدهشة واٍليكم بعضاً مما اٍستطعتُ اٍنتقاءه منها وهو كثير
1.الريل : مرور القطار في مدن وقصبات العراق في الخمسينات والستينات هو حدث بحد ذاته .اٍنه يعني عودة الغياب وهجر الهاجرين ومظفر النواب وظفه وخلده بطريقة حفرته عميقاً في الذاكرة الثقافية العراقية
2. الريحان :هذا النبات ذو الرائحة الزكية أحاله شعر مظفر وتشبيهاته الى مجموعة صور ذهنية ترتبط برائحة الحبيب والعاشق الولهان
يا أول الريحان يالعطيت نوبة بدربي
يا آخر سواﭽﻲ حنيني وحبي
وكما هو معروف لدى العراقيين أن أول عطاء النبات هو الأغلى ومظفر يستخدم أول هنا كتعبير عن أغلى الروائح التي فاحت مرة(أول مرة) في طريقه ويعود للوصف أن الحبيب هو آخر سواقي الحنين والحب وأغلاها
ويستخدم مظفر الريحان مرة أخرى في قصيدة أخرى قائلاً
يلن كل دﮔﺔ من حسنك شتل ريحان للجنّة
مصوراً النبات كواحد من نباتات الجنة الموعودة.
3. المزبن واللف
(المزبن) كما هو معروف هو نوع من أنواع السكائر وهو النوع الابتدائي الذي تبعه نوع (اللف) الذي يستخدم الورق الذي يلف به التبغ.
في قصيدته(أيام المزبن) اٍستخدم مظفر النواب الكلمتين لتحديد مرحلتين متتاليتين من تأريخ العراق أحدهما انقضت ومرت والثانية لابد أن تمر وتنقضي
دگ راسك ﺑﮔاع العرس..واصعَد مراجف للدفْ
أيام المزبن ﮔﻀﻥ .. ﺘﮔﻀﻥ يا أيام اللفْ
وبهذا عبر مظفر بذكاء وتلقائية عما أراد أن يقول وهو أن الظلم لابد أن يزول مستخدماً التعبيرين العاميين (المزبن واللف) الذين خلدهما بما قال
يقول مظفر النواب
للشعر العامي مزاياه وعالمه،وللشعر الفصيح مزاياه وعالمه،اٍن ذلك يشبه الشغل على مادتين مختلفتين تماماً،فعندما تنحت على الصخر غيرَ أن تشكل تكوينات بواسطة الطين.
الطين ،القصيدة العامية،كون العامية مطواعة وبعيدة عن موضوع الاٍرث البلاغي الذي يشد شاعر الفصحى بأبعاد معينة،ثم أن اٍشتقاقات العامية وتراكيبها تمنح الشاعر سعة وحرية في اِشتقاق أية مفردة ربما غير موجودة أساساً وتؤدي معناها (مظفر النواب جريدة الشرق الأوسط العدد 7640)
وحقاً ما قاله مظفر لكن ما لم يقله أيضاً أن اليد التي أنتجت تشكيلاته الطينية اٍستخدمت بوعي ودون وعي أحياناً الصخر الذي صهرته وقولبته وزينت به تشكيلاته الطينية بل وغارت به بعيداً أحياناً حتى القلب لتنتج القصيدة المظفرية العراقية الخالدة المتميزة التي هي معلقة الشعر الشعبي العراقي الوحيدة على مر الزمان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق