الجمعة، 1 يوليو 2016

وديع الصافي ( القسم الثاني من حياته )



عام 1940 بدأت الاحتراف في محلّة "الدورة" وهو حيّ من أحياء بيروت الشمالية الشرقيّة كان الناس يقصدونه للتنزّه وكان فيه مقاهٍ يغنّي فيها المطربون والمطربات في عروض فنّية . كانت "الدورة" مركز لهو وعرض عضلات لمن يغنّي وكان هناك من يغنّي مجاناً ومن يغني بثلاث ليرات في الليلة ومن بخمسة ، أما أنا فكنت أتقاضى عشر ليرات عن الليلة ومن ثمّ خمس عشرة ليرة . ولكي تعرف قيمة هذه الليرات أذكر أن أخي توفيق اشترى لي عوداً بخمس ليرات . المهم أنني بدأت رحلتي الاحترافية في مقهى جوزيف سعادة وهناك التقيت أول مرّة بالصبّوحة وكانت لا تزال "فرخة" في الخامسة عشرة من عمرها ، وقد جاءت لتغنّي لأول مرة في مقهى ، ما كان قد علّمها عمّها شحرور الوادي أسعد الفغالي .

وفي عام 1941 ذهبت مع المطربة لور دكاش الى حلب وكانت معنا بهية وهبي التي اشتهرت باسم وداد وكانت لا تزال صبية صغيرة ، الا أن إحساسها كان جميلاً وسحرتني بغنائها . كانت هذه المرّة الأولى التي أسافر فيها الى حلب .
عام 1945 التقيت في مقهى الباريزيانا بالحاج أبي نقولا بدران والد المطربة ألكسندرا بدران التي اشتهرت باسم نور الهدى والتي كانت تغنّي هناك . سألني أبو نقولا إن كنت أرغب بالسفر الى مصر فأجبته بنعم ، فتوسّط لي لدى يوسف وهبة الذي كان يستعد لبطولة فيلم مع نور الهدى ، لم يخرج الى النور ، لحشري معهم في الفيلم ، وذهبت معهم الى القاهرة .

نزلت لدى أقرباء لي من آل دكّاش في شبرا وهم أقرباء المطربة لور دكّاش طبعاً ، والذين قاموا مشكورين بإيوائي وبإقامة بعض الحفلات ، كما وصرت أخدم في الكنيسة. كانت صباح قد سبقتني الى القاهرة فرحنا نقيم سهرات خاصة وكان طلعت باشا حرب يدعونا إذ كان مديراً لبنك مصر . أما دوافع اشتراكي في الفيلم المصري "الخمسة جنيه" فلا أذكرها وربما يكون أحمد الحفناوي عازف الكمان الشهير هو الذي همس لبهيجة حافظ منتجة الفيلم أن هناك مغنياً لبنانياً في الجوار فأتوا بي وغنّيت مع مغنّين كثيرين آخرين بيتاً في أغنية يقول "جيتك من لبنان" أو شيئاً من هذا القبيل وتقاضيت عن "دوري" هذا خمسة وثلاثين جنيهاً .

أثناء وجودي في القاهرة أخذني الحاج بدران إلى عبد الوهاب في مكتبه في التوفيقية وقال له بلهجته المزرعانية المحببة : "جايبلك صات (صوت) ما في منّو بالعالم" ! فسألني عبد الوهاب : "بتقول إيه" ؟ فقلت : "الفنّ " وكان قد غناها من يومين فقط ، فقال : "لحقت ؟ " قلت نعم وغنّيت المطلع وبدّلت بأسلوب غناء كلمة "ليل" فاستعادها مني عشرين مرّة ، ثمّ صار هو يغنّيها مثلما قلتها أنا ، والحاج أبو نقولا بدران حاضر وشاهد .

لم ترضِ إقامتي في القاهرة طموحي ولم أفعل هناك شيئاً ذا بال . ثم تعرّفت الى الفنان نجيب الريحاني صدفة في مقهى فسألني ما أنا فاعل في القاهرة فأجبت بأني أجرّب حظّي فقال لي انّ الظروف ليست مواتية ونصحني أن أرجع إلى بلدي وأعود فيما بعد . أحسست أنني سأهان في مصر فاستدنت خمسة جنيهات من المغنّي اللبناني محمد البكار الذي كان مقيماً في القاهرة ، والباقي من الحاج أبو نقولا بدران وأخذت بنصيحه الريحاني وعدت إلى لبنان بعد أن قضيت في القاهرة سنة وشهراً .

عدت الى لبنان عام 1946 لأعمل مع الأخوين رحباني في مربع لنجيب عطيّة في شارع بشارة الخوري على طريق الشام في وسط بيروت . كانت خاصة من المستمعين تأتي لتسمعني أنا وعاصي ومنصور يعزفان معي عاصي على البزق ومنصور على الكمان . كنت أغنّي الميجانا والعتابا وكذلك الفنّ الجديدة لوهاب وأغنيات مصرية أخرى وكذلك المعنّى العظيم وكنت أتقاضى ثمان ليرات لليلة الواحدة . كنت قد قرأت قصيدة لأسعد السبعلي في أحد دواوينه عنوانها "طلّ الصباح وتكتك العصفور" أعجبتني كثيراً فأخذتها ورحت أغنيها فلاقت نجاحاً كبيراً.

في مربع نجيب عطية تعرّفت على مغترب لبناني ثري اسمه كميل كريدي كان يعزف على البيانو ويحب الموسيقى والغناء نصحني أن أجرّب حظي في البرازيل وموّل تذكرتي على الباخرة ، أما البذلتين اللتين أخذتهما معي فكانتا من ريع حفلة وداعية أقيمت على الرميلة في بيروت قبيل سفري .

كانت الحرب العالمية قد وضعت أوزارها وكانت عائلتي تسكن بالإجارة لدى السيد معروف قليلات الذي كان صديقنا ويحب صوتي . لم نكن دائماً قادرين على دفع بدل الإجارة في موعده ، إلا أنّ معروفاً لم يكن يسأل وكان يرضى التأجيل مشكوراً . لم أحتمل هذا الوضع فقلت أسافر لأعود بثمن بيت يأوينا ويريح أبي من دفع الإيجار أو لا أعود . سافرت ومعي ليرة واحدة أخرجتها من جيبي وقلت لأختي جان دارك التي كانت تودّعني باكية في المرفأ : هذه الليرة بيني وبين لبنان وسأرى ما سيكون بيننا ، وسافرت ولم أنظر خلفي من الباخرة المبحرة من ميناء بيروت وكان ذلك عام 1947. سافرت معي على الباخرة نفسها الفنانتان حنان ونهاد بشعلاني فتولّيت تدريبهما فازدادتا قدرة وكانت حنان مطربة مهولة أهم من نهاد.

كانت رحلتي الى البرازيل انتحارية فإما أن أعود بثمن بيت أو لا أعود . وصدف أن كانت رحلتي أول رحلة اغترابية لفنان لبناني بعد الحرب الكبرى فاستقبلوني هناك وكأنني كريستوفر كولومبوس بالعقول وبالقلوب وبالدموع ، فعملت العجائب هناك على الصعيد المادي أيضاً . كانت "طلّ الصباح" قد لاقت نجاحاً كبيراً في لبنان فأخذتها معي الى البرازيل ونشرتها بين المغتربين هناك . هناك رحت أغني الى جانب المعنّى والميجانا والعتابا القصائد الفصيحة أيضاً أذكر منها "ما لنا كلنا جوٍ يا رسول" لأبي الطيب المتنبي و"بين الخمائل والربى" لابرهيم البسيط وغيرها الكثير.

عدت من رحلتي الموفّقة الى البرازيل عام 1950 لشديد تعلّقي بوالدتي ولأني عقدت العزم على الزواج بعد أن اقتربت من الثلاثين وبعد أن اقتنعت انني غير قادر على الزواج من لبنانية مغتربة . شعرت أنني لا أستطيع أن أفرض عليهن مقاييسي في الاحتشام وأنا شديد في هذا الموضوع . وبالفعل تزوّجت بعد تسعة أشهر من عودتي من البرازيل وكان ذلك عام 1951 وولدت ابنتي البكر دنيا عام 1952 ثمّ مارلين (1954) ، فادي (1957) ، طوني (1960) ، جورج (1961) وميلاد (1967) .

عدت الى بيروت عام 1950 وجئت الى حليم الرومي في الإذاعة ، فقال لي : لا تغنِّ أغنيات الطرب ؛ إننا نريد لون الزجل بصوتك ، أما الطرب "فلاحقين عليه" ! وقد صدق الرجل وكان الأمر لخيري ولخير الناس معاً . كانت الكرنك والجندول قد اختفتا من الإذاعة وحلّت محلّها أغان خفيفة لفريد الأطرش مثل "يا عوازل فلفلوا" ، فضربت أخماساً بأسداس . كان المستمعون قد نسوني لأننا كنّا نغنّي على الهوا ولم تكن الإذاعة تسجّل الأغاني ؛ فيسمعنا الناس ساعة وينتهي الأمر وبذا فقد ضاع الكثير من التراث اللبناني ، والمصري أيضاً . عرفت أن الأوقات قد تغيّرت وأن عليّ أن آتي بشيء جديد خفيف على نسق" العوازل" ، وهكذا ولدت فكرة "عاللومة" التي لاقت كما هو معلوم نجاحاً منقطع النظير . لم تكن الأغنية اللبنانية واضحة المعالم آنذاك وكانوا يغنونها ملتبسة على الرغم ان الأولين قد اجتهدوا فيها من أمثال نقولا المني وايليا بيضا والياس ربيز وسامي الصيداوي وغيرهم . هؤلاء بدأوا الأغنية المحلّية ، كيلا نقول اللبنانية ، المحيّرة بين الأمزجة العراقية والسورية والفلسطينية والمصرية ، ورحت أنا وزملائي نكمل ما بدأ الروّاد .
في الخمسينات كنا نغنّي تراثنا من مواويل ميجانا وعتابا وأبو الزلف ودلعونا ومعنّى وبضعة أغان أخرى ، أما الإرث الأكبر الذي تركته فقد كان من موسم 1959 فصاعداً ، ذلك الموسم الذي اشتركت فيه في مهرجان بعلبك مع فيروز ، وبذا بدات مرحلة المهرجانات في مسيرتي الفنية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق