أكّد الموسيقيون العرب وحتى بداية ثمانينات القرن العشرين على الطرب والتطريب حتى كاد هذان أن يقتلا الأغنية شر قتلة، ويخنقا العنصر الموسيقي فيها، ويختزلانه في عُرب المطرب وبعض اللوازم الموسيقية الخجولة المتعثرة. وكانت الأغنية العربية معلبة في بضع قوالب أنهكت أذن المتذوقين لموسيقا أخرى، وجعلتهم ينظرون للأغنية العربية على أنها من لوازم التخلف الشرقي وأحد مظاهره.
فتقدير واحترام الجيل السابق من العمالقة لا يقلل من شأنه نقد لأسلوب تنفيذ أعمالهم، أو نظرة مختلفة إلى القوالب التي سكبوا فيها أغانيهم ومؤلفاتهم الموسيقية. وبالتأكيد، هناك استثناءات قليلة إذا ما قسناها كمّاً لما تبقى أضحت نوادر وتحفاً يُستشهد بها وبمن أشرف على تنفيذها وتوزيعها بالقدر الذي سمحت به تقنيات وإمكانيات ذلك الزمان.
حتى ستينات القرن الماضي، كان الطرب مقياسا للحن، والمِعْزَةُ مقياس الطرب!
واجتهد الملحنون أن يزيدوا من صعوبة اللحن المغنّى بطرق متعددة، فكانوا مثلاً يكثرون من العلامات المعترضة المغايرة للمقام في الجملة الواحدة، أو يزيدون من سرعة العلامات ضمن جملة صغيرة، وأحياناً، كان الملحن المطّلع يزيد المسافات بين العلامات في جملة قصيرة. كان هذا هو التحدي الذي أشهره سادة ألحان النصف الأول من القرن الماضي في وجوه مطربي تلك الفترة، فإن أجاد تأدية ما لحنوا فهو قدير، وإن لم يحسن ذلك فالطقطوقة قد تزيد على مقدرته الغنائية. لذلك اجتهد مطربو تلك الفترة أن يكثروا من العُرب الصوتية حتى لتخال - أحياناً - اجتهادهم مجرد تقليد سيّء لثغاء مِعزة.
هذا المفهوم المتعنت لمعنى الطرب أساء للموسيقا العربية بالعموم، والطرب لغةً وعلماً هو عصب لا إرادي يحرك القلب، وكائناً ما كان محركه فهو طرب وطرب، وطرب!
توزيعياً، كان دور الآلات الموسيقية مجحف بحق إمكانية أي آلة، وكان توظيف الآلة مقتصر أيضاً على إعطاء دورعشوائي لها كيفما اتفق، وبلا اهتمام جدّي مدروس لإمكاناتها وأهمية توظيفها، وأسوأمثال على ذلك ما يسمى بالـ ( دوزان ) الشرقي لآلة الكمان، حيث تم تخفيض الوترين الأخيرين درجة كاملة لتسهيل العزف، بل لتسهيل قتل صوت هذه الآلة التي تعتبر من أكثرالآلات الموسيقية مقدرة على التعبير بأحاسيس لا حصر لها. يمكن لأي مستمع لتسجيل قديم أن يلاحظ بسهولة كيف يتم تسخير الآلات الموسيقية المختلفة في التخت الشرقي لمرافقة براعة المطرب بتقليده عشوائياً، وحتى في حال وجود لوازم مكتوبة ( أو محفوظة ) سيلاحظ سباقاً عجيباً بين الآلات عندما لا يبدؤون معاً ولا يختمون معاً، فالتنفيذ الكيفي غير المضبوط زمنياً وحركياً سمة ضرورية لمعرفة أن العمل شرقي بدون فهم لغة المطرب.
تحدثت عن استثناءات، ويمكنني أن أذكر أن بعض الملحنين المصريين الذين أتيحت لهم دراسة الموسيقا في أوروبا مثل زكريا أحمد، قدموا أعمالاً رائعة بالقياس لتلك الفترة. فقد قدم لنا زكريا أحمد رائعته "يا طيور" التي غنتها أسمهان بعد أن تيقن من أن طبقة صوتها – سوبرانو – تسمح لها بأداء مثل ذلك اللحن. ولا أنسى أن أشير لأجمل لحن فالس عربي قدمه أيضاً زكريا أحمد للمطربة ليلى مراد وهو أغنية "أنا قلبي دليلي". هذه الأعمال وبعض من أمثالها لا تشكل سوى إشارات بسيطة وخجولة بسبب أن المستمع العربي في تلك الفترة وفي تلك المنطقة – مصر – لم يكن معتاداً على هذا النوع من السمع، قدره البعض، ثم نساه الجميع بدليل أنه لم يتكرر.
وفي خمسينات القرن الماضي، ظهرت مدرسة عربية جديدة للموسيقا، لبنانية المنشأ، عربيةالهوية، عالمية المضمون والهدف. حيث لفت الرحابنة الأذن العربية إلى مقومات جديدة للاستماع، وإلى قواعد لم تكن متبعة في الأغنية العربية من قبل، وإلى عناصر تكوين الأغنية تضاف إلى ما كان سائداً.
فقد بيّن الرحابنة للمستمع العربي أن الطرب أمرنسبي، كما هو أمر مركّب! وأجبروا المستمع العربي بلطف ألحانهم أن يتعرف على عنصر هام وهو الميلودي البسيط. كما أكدوا على أهمية دور الموسيقا في الأغنية بأن حرروها من المرافقة الغثة لمحاكاة المغني وأعطوها دورها التوزيعي الفعال في تأكيد اللحن الأساسي (الميلودي) عبر ألحان أخرى ترافقه تكمل وجوده وتبرز جماله. حتى عندما نفذوا أعمالاً لشيوخ الموسيقا كسيد درويش ومحمد عبد الوهاب، قاموا بمعالجتها توزيعياً بما يليق بتوقيعهم عليها. وكانت أغنية: "يا جارة الوادي" التي لحنها محمد عبد الوهاب وغناها بصوته صورة رائعة لما أتقنه أولئك الجهابذة من فن الإخراج الموسيقي الأخاذ، صورة أكدت أنه للطرب شكل آخر، وللاستماع شكل جديد في الغناء العربي.
وظف الرحابنة آلات النفخ الأوركسترالية ضمن الأغنية القصيرة مثل آلة الأوبوا والكلارينيت والباصون، وقد أعطوا في أغانيهم دوراً هاماً وجميلاً لآلة الفرينش هورن في أداء منفرد بالغ الرقة في أغان قصيرة وفي جمل موسيقية صرفة موظفة ضمن أعمالهم المسرحية.
كما كتب الرحابنة ألحاناً عربية على قوالب تأليف غربية مثل التانغو والبوليرو والمامبو في أربعينات القرن العشرين وما تلاها، وأثبتوا أن الموسيقا فن عالمي لا تحيطه حدود ولا تعيقه اللغات. وقد أجادوا في التوزيع المناسب لكل قالب مع إعطائه بعض الرونق الشرقي بإضافة آلات شرقية له أو بكتابتها على مقامات شرقية بأرباع الصوت المعروفة مثل البيات وغيره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق