الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

رحلة مع الفنان منير بشير

بين الأصالة والإغتراب
رحلة مع العود حول العالم العربي- منير بشير

في عام 1993، أربع سنوات قبل وفاة منير بشير – عازف العود والموسيقي العراقي (1930-1997)- قامت مؤسسة الشرق للصوتيات في بيروت بإنتاج إسطوانة بعنوان: "رحلة مع العود حول العالم العربي"، حاملة 18 قطعة بين أغانٍ شعبية من التراث الشرقي ومقطوعات موسيقية من تأليف منير بشير وأخرى من الموسيقى الغربية الخفيفة.

بعد مشوار طويل وحافل مع العود، تأتي هذه الإسطوانة في محاولة لتلخيص ما عمل "منير بشير" عليه خلال سنوات من العمل الموسيقي الجاد لتطوير الآلة واستكمالاً لمسيرة شقيقه "جميل بشير" وأستاذهما "الشريف محيي الدين حيدر" و"مدرسته" الخاصة في العود، ما صار يُعرف مؤخراً بـ"المدرسة العراقية".

يُرافق منير بشير في رحلته هذه عدد من آلات الإيقاع وتُصاحبه في بعض الجمل هنا وهناك كل من آلتي الناي والكونترباص.
تبدأ رحلة الموسيقي - موصلي المولد- من العراق حيث يستهلها باستعراض قوي للإيقاعات والرقصات الشعبية العراقية من خلال أُغنية "هلا يا أم عبد" الشعبية، من مقام الراست على إيقاع "الهَجَع" [الهتشع (الهجع): ميزان زوجي (2/4) يُعزف مُصاحباً لرقصة الهجع وهي رقصة تراثية نسائية منتشرة بشكل خاص في جنوبي العراق.]
يصاحبه في ذلك الناي مُنتقلا في نفس المقطوعة من خلال إرتجال مميز لآلات الإيقاع إلى دبكة عراقية ذات إيقاع رباعي، ومنها إلى أُغنية "عل الميمار" من مقام البيات وهي إحدى أهم الأغاني لرقص "الجوبي" في العراق [التشوبي (الجوبي): ميزان ثماني (8/8 ) يُعزف مُصاحباً لرقصة الدبكة العراقية (الجوبي) وهي رقصة رجالية. يتميز هذا الإيقاع ببدايته القوية و"الثقيلة" ذات الدُّمّات الثلاث.]
لعل بشير أراد من هذه البداية المفعمة أن يوجه تحية لموطنه الأصلي خاصة وأن التناول الموسيقي جاء تقليدياً إلى حد كبير.

وتتواصل الرحلة في العراق من خلال لحن "ياحنينة" من مقام "مخالف"حيث البداية والدخول المتدرج لآلات الإيقاع والكونترباص يليه دخول العود في أداء غنائي بسيط يُعطي الأُغنية طابعاً تأملياً هو من سمات عزف منير بشير، ويبرز خاصة في الإرتجال المُوقع للعود والذي يعود من خلاله بشكل تلقائي إلى اللحن ليكون الختام تدريجياً ويشبه البداية إلى حدٍ كبير. والواقع أن هذا القالب (أ ب أ) / (أ ب أ ج أ) هو الشكل الذي جاءت عليه أغلب الأغاني الشعبية في هذه الإسطوانة مثل: "زوروني" لسيد درويش، "أكافوكيم" من التراث الكردي، "هلالاليا"، "طالعة من بيت أبوها"، "البنت الشلبية" و "تشيمالي والي" العراقية. في هذا القالب يتحول اللحن الأصلي إلى ما يشبه "المذهب" أو "اللازمة" في حين يحل الإرتجال مكان "الخانة" ويأخذ وظيفة "تطوير" اللحن، وبهذا إستطاع بشير ومن خلال الإرتجال إبراز مهاراته كموسيقي متمرّس وإتقانه ومعرفته بسكك المقامات الشرقية. ولم يكتفِ بهذا بل إستطاع المزج بين التوجه الشرقي "المقامي" للإرتجال والتوجه المُتأثر ببعض ملامح الموسيقى الغربية، وقد بدا هذا التأثر في الإرتجال المُصاحب لأُغنية "يا حنينة" واضحاً من حيث الأداء، أما في أُغنية "طالعة من بيت أبوها" فلا يقتصر التأثر على الأداء أو الإرتجالات، بل يستهل بشير الأُغنية بمطلع مُقتبس مُباشرةً من موسيقى الريثم أند بلوز (Rhythm and Blues)، يتكرر هذا الإقتباس أكثر من مرة ويليه إرتجال يطغى عليه مزاج غربي. وإن كان المقام الذي جاءت عليه هذه الأُغنية (أي مقام عجم) ساعد منير بشير على إستخدام مثل هذا الأسلوب في خلط النمطين الغربي الشرقي فهو بلا شك ليس السبب في ذلك، إذ أنه لا يلجأ إلى مثل هذا الأُسلوب في أداء "زوروني" لسيد درويش من نفس المقام (عجم)، إيقاع مصمودي، وهو أداء فيه بعض المرح وإرتجال ذو ملامح شرقية واضحة مع تعريج جميل على نغم "اللامي" العراقى يعكس بلا شك الجذور الثقافية لمنير بشير ويُكسب المقطوعة بعداً جديداً لم نعهده في الأداء المصري لهذه الأُغنية.

من هنا تبدأ "الرحلة" بإتخاذ ملامح غربية في طبيعة الألحان أولاً وفي أداء منير بشير ثانياً. والحديث هنا ليس عن ألحان منير بشير والمستوحاة بشكل واضح من الموسيقى الغربية كما في "سنابل"، "بصرة"، "بابل" و "خطوة ما بعد منتصف الليل" أو من الفلامنكو كما في "نارين"، إنما عن أداء منير بشير كذلك. يبدو أن منير بشير مهموم بابراز إمكانيات الآلة وقدرتها على محاكاة أنماط متنوعة من الموسيقى العالمية، يؤكد ذلك إختياره للأُغنية الغربية "Johnny Guitar". والواقع أني لا أجد تفسيراً غير هذا لوجود هذه الأُغنية في إسطوانة تحمل عنوان"رحلة مع العود حول العالم العربي"! ويبدو كذلك أنه حريص على الإبتعاد عن النمط التقليدي لعزف آلة العود من حيث إرتباطها بالتطريب ومصاحَبة الصوت البشري. إلا أن هذه الحرص المفرط كما يبدو جعل بشير يقع في مأزق آخر، فإذا كانت كثرة إستخدام الزخارف والإهتمام بالتطريب على حساب المعنى من المآخذ على الموسيقى الشرقية، فإن مأخذي الأول على منير بشير هو المبالغة في التقشف في الأداء دون مراعاة – في كثير من الأحيان- لـ"مزاج" اللحن مما يضفي شيئا من الرتابة على الأداء ويقلل من الحضور الشخصي للعازف الشرقي. ولعل"شوان" وهي مقطوعة شبه مرتجلة على موتيفات من التراث الغنائي الكردي مثال على ذلك. فلم نلحظ أن بشير حاول تعويض الإختلاف بين آلة العود والصوت البشري في الأداء. وإن كان التنوع المقامي لقطعة مثل "شوان" قد خفف شيئاً من رتابة العزف إلا أن لحناً مثل "أُم الخلخال" – وهو لحن لبشير- لم ينجح في ذلك. هذا اللحن، من مقام "حجاز كار" جميل رغم بساطته الشديدة، وبعكس قطعة "خطوة ما بعد منتصف الليل" حيث يعكس الصمت والسكوت كما أراده منير بشير شيئاً من الترقب والخوف المتناسبين مع طبيعة لحن وموضوع القطعة، فإنني أتساءل عن الجدوى من فترات الصمت الطويلة في "أُم الخلخال"؟ فبإستثناء القسم الثاني من القطعة الذي بدا أكثر حيوية كونه أسرع وذا إيقاع ثنائي، كان الأداء غريباً على موضوع المقطوعة "أُم الخلخال". بدأ بشير اللحن بإستعراض واضح لإمكانات العازف وبمقدمة توحي بشكل ما إلى أجواء ألف ليلة وليلة. إلا أن الأداء الحرفي والتبسيط المبالغ فيه للجمل فيما بعد أفقد اللحن كثيراً من جماله وجعله ركيكاً إلى حد ما. والغريب كذلك ألا نُحس أي نفحات شرقية في الأداء رغم أن القطعة جاءت على مقام "حجاز كار"، عدا عن الجمل القليلة التي يؤديها الناي حيث يبرز تباين واضح جدّاً بين أداء العود وأداء الناي.

أما مأخذي الثاني فهو الحرص الزائد على إستعراض إمكانات منير بشير كعازف مُهملاً السياق الموسيقي للحن وبشكل خاص عند الإستخدام المتكرر غير المُبرّر للكوردات (chords). أول الأمثلة على هذا وأوضحها أُغنية "هلاليا" الشامية من مقام عجم، فبالإضافة إلى الإستخدام المبالغ فيه للكوردات نلاحظ إختلاف أسلوب أداء الناي الذي يحاول هنا تقليد صوت آلة الفلوت الغربية في محاورته للعود ويعزز هذا المزاج الغربي إرتجال منير الذي لا يختلف كثيراً عن إرتجالاته في "طالعة من بيت أبوها" و "البنت الشلبية" أو "تشيمالي والي" التي تنوعت ألحانها بين مقامي عجم ونهوند وهي بالتالي مقامات يسهل من خلالها إبراز مثل هذا المزاج الغربي نظراً لكون سلالمها مطابقة للسلمين الكبير والصغير في الموسيقى الغربية.

وقبل أن يختم منير هذه الجولة ذات الملامح الغربية في العالم العربي برقصة تذكرنا ببداية الإسطوانة، يصل منير بشير إلى أُغنية "بين الدوالي" الشامية من مقام راست بدون تدخل واضح في اللحن، فجاء الأداء بسيطاً جميلاً وكذلك الإرتجال.

لا شك أن منير بشير هو من أبرز من ساهم في طرق الأبواب لإعادة النظر في إمكانيات العود وهو من الرواد الذين سعوا إلى تطوير أساليب العزف على هذه الآلة، إلا أنني أتساءل عن حدود وشكل هذا التطوير، وهل من الممكن أن يحفظ للآلة تميزها وهويتها الشرقية دون أن يتحول العزف إلى إستعراض للعضلات؟ ودون أن تتحور آلة العود إلى "بانجو" أو "جيتار"؟؟

هدى عصفور

اقتباس من موقع منتدى سماعي للطرب الاصيل


تقاسيم مقام الرست والفنان منير بشير


تقاسيم مقام صبا للفنان منير بشير


تقاسيم البنت الشلبية 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق