عمار الشريعي
وعد «عمار» والدته الصعيدية أن يأتي لها بالرخصة أولا قبل أن يبدأ مشواره في مجال الموسيقى التي أحبها منذ نعومة أظفاره، وهذه الرخصة هي ليسانس كلية الآداب في قسم اللغة الانجليزية من جامعة عين شمس، وكان ذلك عام 1970 ليصبح اليوم التالي هو بداية غوصه في بحر النغم الذي تعلم السباحة فيه لأنه عرف أنه قدره الحقيقي.
«عمار علي محمد إبراهيم علي الشريعي» الشهير بالموسيقار عمار الشريعي، ولد يوم الجمعة 16 أبريل من عام 1948 وقت زيارة عم «عمار المصري» هذا الرجل البدوي الذي كان يعيش في الصحراء الغربية بين مصر وليبيا وكان يزور عائلة عمار مصادفة وقت ولادته فأطلق عليه والده اسم «عمار» نسبة إلى هذا الرجل البدوي صديق جده الذي كان يحبه والد عمار. بدأ الطفل الصغير الذي ولد كفيفاً أول 5 سنوات من عمره في قرية «سمالوط» في محافظة المنيا في صعيد مصر وكانت تتخللها زيارات في مدينة الإسكندرية في شمال مصر، وما بين المنيا والإسكندرية تشكلت شخصية عمار الطفل الذي أحب سماع الراديو من صغره وكان يطلق عليه صديقه الوحيد، بالإضافة إلى البيانو الضخم المزين بأربعة شمعدانات فضية، والذي كانت تملكه جدته والموجود في أحد أركان المنزل، وكانت أول مرة لامست فيها أصابعه أصابع البيانو حين عزف لحن أغنية «يا دنيا اجري بينا». وبالرغم من أن الطفل «عمار» صعيدي من جنوب مصر إلا أن بشرته البيضاء ورثها من جده التركي والد والده مما يشير لتعدد الثقافات التي نشأ عمار في وسطها وأثرت في شخصيته وتنوعها، بالإضافة لذكائه وبصيرته الحادة التي أغنته عن فقدان البصر. بالإضافة للترابط الأسري فوالده ووالدته كانا ولدي عم، وفي نفس الوقت كانا ولدي خالة، أما صديق والده «كامل الشناوي» فهو أول من اكتشف موهبة عمار ذي العشر سنوات عندما ناقشه في إحدى أغاني فيلم «الخطايا» التي تغنى بها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.
وبالرغم من أنه أخذ الموهبة وحب الموسيقى من والدته التي وصفها بالفلكلور المتنقل لغنائها في كل الأحوال عند الفرح وعند الحزن. وحكت له أنه كان يتجاوب معها عندما كان طفلا رضيعاً وخلال سنواته الأولى. إلا انها أول من وقفت في طريقه خاصة بعد وفاة والده لإصرارها على أن يسلك طريق عميد الأدب العربي «طه حسين» وأيدها أخواله وأعمامه مما جعله يخضع لرغبتهم
وأحضر لهم الشهادة الجامعية ليتركها عندهم ويبدأ مشواره الحقيقي الذي رسمه له القدر من خلال لوحة النشأة التي كان جزءاً من صورتها الأساسية. فمدينة «سمالوط» التي نشأ بها «عمار الشريعي» كانت بها الاتجاهات المختلفة للغناء والموسيقى. فالغناء الديني هو الأساس، وأول من علمه القرآن الشيخ «محمد أبو سمرة» بالإضافة للمنشدين والمشايخ محمد أبو إسماعيل، ومحمد عبد القادر، كذلك الاتجاه الآخر وهو الغناء الشعبي خاصة في الموالد التي تكثر بمدن الصعيد ومن ضمنهم «نعيمة» صاحبة إحدى الفرق الشعبية التي كانت تغني بصوت جميل وأحبها وأحب غناءها حتى وصل إلى مرحلة المدرسة التي بدأ فيها احتكاكه بالموسيقى لأول مرة بشكل علمي ومدروس، وكانت المدرسة تضم ثلاثة اتجاهات: إما الإعداد للتعليم الديني أو تعليم المهن اليدوية أو الموسيقى واختار عمار الموسيقى وعندما وصل إلى الابتدائية وطلب منه أداء امتحان الموسيقى ساعده والده وأحضره إلى «كمال الطويل» الذي قام بامتحانه قبل المدرسة وكانت النتيجة أنه قال لوالده: «ابنك زي طالب متخرج من معهد الموسيقى من سنين».
ومن هنا بدأت علاقته بالراحل كمال الطويل ولم ينس عمار الشريعي يوما استاذه «سيد حسنين» الذي كان يترك له مفاتيح غرفة الموسيقى بالمدرسة طوال فترة بعد الظهيرة وتعلم خلالها العزف على البيانو والاكورديون كما تعلم العزف على آلة العود بنفسه.
وبالإضافة إلى الأستاذ «سيد» كان أيضا مدرس الألعاب أو الرياضات البدنية الذي كان يهوى الموسيقى وكان يعلم أن عمار يحب الموسيقى وكان وقتها يراسل إحدى المدارس في أميركا التي ترعى المكفوفين في شتى المجالات وقام بمراسلتهم من أجل أن يتعلم عمار التأليف الموسيقي.
قام عمار بإعطاء أول لحن له للفنانة «مها صبري» وكان بعنوان «امسكوا الخشب» ومن ثم بدأ حياته كعازف أكورديون في إحدى الفرق وظل يتنقل ما بين الفرق حتى وصل إلى «الفرقة الذهبية» بقيادة صلاح عرام وكان ذلك عام 1975 .
وبعد هذا اللحن لم يطلبه سوى المخرج «نور الدمرداش» الذي أسند له ألحان مسلسلي «بنت الأيام» و«السمان والخريف» حتى جاءت الفنانة «شادية» التي طلبت منه لحن «أقوى من الزمن» ووقت تسجيل الأغنية غضبت شادية وكاد اللحن ألا يرى النور
لولا تدخل الملحن الراحل كمال الطويل الذي لجأ له عمار الشريعي وعادت الفنانة شادية مرة أخرى وكانت هذه بداية حقيقية لشهرة
«عمار الشريعي» .
كان أول أجر حصل عليه عمار الشريعي هو 99 قرشاً وكان من الإذاعة المصرية عن عزفه للحن أغنية محو الأمية الشهيرة
«يا أهل بلدي في كل مكان» وكان ذلك عام 1966 .
قام عمار الشريعي بتلحين العديد من الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات وهو يعتبرها من أصعب الأعمال لأنها موسيقى تعبر عن وجهة نظره بمشاركة مخرج العمل وليس فقط مجرد تصوير للدراما المرئية على الشاشة، ومن ينسى موسيقى فيلم «البريء» للمخرج عاطف الطيب وصاحب صرخته الراحل احمد زكي والذي صرخ معه عمار الشريعي من خلال موسيقى عميقة لا يمكن تجاهلها. هو أيضاً الذي جسد «أحلام هند وكاميليا» في موسيقى الفقراء الجميلة التي تجسد أيضاً أحلامه الشخصية،
وهو من ألهب مشاعرنا في مسلسل «رأفت الهجان» الذي اتهمه البعض بسرقة لحنه من أوبريت يهودي ظهر بعد هزيمة يونيو 1967 لكنه وقف ضد هذه المهاترات وقفة تشبه موسيقاه في المسلسل ليعلن غضبه كما أعلنه في مشهد الهزيمة في المسلسل بموسيقى حزينة تغلفها فرحة زائفة للاختفاء عن الأنظار حتى لا ينكشف أمر رأفت الهجان.
عمار الشريعي هو من قام بتأليف موسيقى وإغاني مسلسل «هو وهي» ومنها أغنية «الشيكولاته» التي تغنت بها سعاد حسني في المسلسل وأعجبت باللحن المطربة الشعبية «فاطمة عيد» لتغنيها فهو صاحب الألحان السهلة الممتنعة والأعمال التي لا يستطيع أن يعبر عنها أحد غيره. هو الذي كان يرى في الحب قدرا كبيرا من فرض شروط معينة والحفاظ على قدر ما من المصلحة والفائدة حتى جاء ابنه «مراد» وقام بتغيير وجهة نظره في الحب الذي أصبح قيمة مطلقة بلا شروط، وذلك من خلال لمسة صغيرة من يدي «مراد» الصغيرتين وجملة شديدة التلقائية «أنا بحبك قوي يا بابا» كانت هذه الجملة هي سبب حالة الحب التي طرحت نفسها في ثوان معدودة واستمرت معه لتمنحنا موسيقى فريدة من نوعها والغوص معه في بحر النغم. قال له الموسيقار محمد عبد الوهاب «أنا وأنت روح واحدة في جسدين» ولم يقلها لأحد في حياته الا لعمار الشريعي الذي أعطاه الكلمة السحرية ليكمل مشوار محمد عبد الوهاب الذي كان يتنقل بين المقامات الموسيقية والثقافات المختلفة كراقص باليه لا نشعر بخطوته على المسرح وليكمل عمار الشريعي بقية الرقصة حتى النهاية. عمار الشريعي هو من قال «يجب أن نخلق تياراً جديداً في الأغنية العربية» وبعدها قدم لنا «آمال ماهر» التي اعتبرها كثيرون خليفة لكوكب الشرق أم كلثوم وهو من اعتبر «سيد درويش» الزلزال الموسيقي الأول في الفترة التي ظهر بها وأن أهم توابع هذا الزلزال وأولها هو محمد عبد الوهاب. ولم ينس كمال الطويل الأب والأخ والصديق وبليغ حمدي الذي أقرضه الأورغ الأول من نوعه في مصر في ذاك الوقت ليبدأ حياته العملية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق